سورة الزخرف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.
يصدّون: أي يتصايحون، ويكثرون من الضجيج، شأن الجماعة يطلع عليها أمر على غير ما تتوقع، وهى في مأزق حرج، فتتعلق بهذا الأمر الذي ترى فيه فرجا ومخرجا، فتصيح بصيحات الفرح المجنون، الذي تختلط فيه الأصوات، فلا يعرف الكلمات مدلول، وإن عرف للإشارة والحركات مفهوم، يدل على الفرحة والابتهاج.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن قصة موسى مع فرعون انتهت بتلك النهاية التي كانت مثلا فيما تنتهى إليه طريق الضالين، المكذبين بآيات اللّه وبرسل اللّه.. وإن في هذا المثل لعبرة لمعتبر، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وفى عيسى بن مريم مثل بارز، لمن يتعقل الأمثال، وينتفع بها.
ففى ميلاده هذا الميلاد العجيب، من غير أب- مثل شاهد على قدرة اللّه، وعلى أنه سبحانه يخلق ما يشاء، على غير مثال سبق من تلك المخلوقات، التي تجرى على طريق الأسباب الظاهرة لنا.. فاللّه سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات جميعا.
وفى هذا الميلاد العجيب، الذي يبدو لنا من خلق عيسى عليه السلام من غير أب، إشارة دالة على أكثر من أمر.
فأولا: أن صفة هذا الميلاد الذي يكاد ينفرد به عيسى من بين بنى الإنسان لا يصحّ أن يكون داعية لبعض الناس إلى عبادته، وإلى رفعه عن مقام المخلوقين من مخلوقات اللّه.. فما هو إلا عبد من عباد اللّه، وخلق من خلقه.. وأنه إذا كان قد ولد من غير أب، فالإنسان- أصلا- خلق من غير أب وأم.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [59 آل عمران] فعيسى وآدم عند اللّه على سواء.. كلاهما مخلوق للّه.
سواء منهما من خلق ابتداء من غير أب ولا أم، أو من خلق من أمّ دون أب.
ومن هنا، فلا يكون لأولئك الذين يعبدون عيسى، ويجعلون له نسبة خاصة باللّه- لا يكون لهم حجة يتخذونها من ميلاده الذي جاء على تلك الصفة.
وأنه إذا كانت لهم حجة، فهى من واردات الأوهام والضلالات، كتلك الحجج التي يقيمها عبّاد الأحجار والأصنام والكواكب، والملائكة على معبوداتهم.. فالذى يعبد الحجر لا يعدم أن يجد له منطقا يعبده عليه، تماما كالذى يعبد الشمس، أو القمر، أو الملائكة، أو الجن.. فكل معبود من تلك المعبودات له عند من يعبده وجه يعبده عليه، ومنطق يتعامل به معه.
وثانيا: أن ميلاد عيسى على غير الأسلوب الذي ولد عليه سائر الناس، دليل على قدرة اللّه التي لا تحكمها الأسباب.. وأن اللّه سبحانه قادر على كل شىء.
وأنه سبحانه بهذه القدرة قادر على أن يبعث الموتى من قبورهم، وأن يحيى هذه الأجساد بعد أن أبلاها البلى، وذهب التراب بمعالمها.
وفى قوله تعالى: {ابْنُ مَرْيَمَ} دون ذكر عيسى باسمه، أو لقبه المسيح في هذا إشارة إلى أنه ابن امرأة، هى مولود من مواليد الإنسانية.. فهو- أيّا كان ميلاده- ثمرة من شجرة الإنسانية، موصول نسبه بنسبها.. أيّا كان لون هذه الثمرة، أو طعمها!!.
وفى قوله تعالى: {إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} إشارة إلى هذا اللغط والصخب، الذي أثاره المشركون عند ضرب هذا المثل في تشبيه خلق عيسى بخلق آدم، كما يقول اللّه تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [59: آل عمران].. فقد انتهزها المشركون فرصة يشغبون بها على النبي، ويأخذون منها الحجة عليه من لسانه، بهذا المثل الذي ضربه.
فهو سبحانه يقول لهم: إن عيسى بشر مثل سائر البشر، وإنه مولود من الإناء الذي يولد منه كل إنسان، وهو رحم الأم.. وهم- أي المشركون- يقولون للنبى: هذا عيسى، هو بشر- كما تقول- وقد عبده من هم أهل كتاب سماوى، ولا بد أن تكون هذه العبادة عن دعوة من اللّه لهم- وإذن فعبادة غير اللّه جائرة عند اللّه.. ونحن إنما نعبد الملائكة الذين هم بنات اللّه.. والذين نتمثلهم في هذه الأصنام التي نسميها بأسمائهم، كهبل، واللّات، والعزّى، ومناة.. فأىّ خير؟ آلهتنا تلك التي هى بنات اللّه؟ أم المسيح الذي هو ابن مريم؟ وإذا كان اللّه قد رضى لأهل الكتاب أن يعبدوا ابن امرأة، أفلا يرضى اللّه لنا أن نعبد الملائكة.. وهن بنات اللّه؟.
هذا منطق القوم الذي استخرجوه من هذا المثل الذي ضرب لهم في خلق عيسى.. وهو منطق قائم على المماحكة والسفسطة.. إنهمأمسكوا بمقدمات باطلة، ثم خلصوا منها إلى نتائج فاسدة.
فمن قال لهم إن عبادة الذين يعبدون المسيح قائمة على الحق؟ إنها كفر وشرك باللّه، مثل كفرهم وشركهم، بما يعبدون من هذه الآلهة التي أقاموها بأيديهم، وسموها بأسماء الملائكة كما يقول اللّه تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى} [19- 22 النجم].
إن عبادة الذين يعبدون المسيح قضية أخرى.. لم يكن من شأن الدعوة الإسلامية أن تعرض لها في هذا الدور الذي تواجه فيه هؤلاء المشركين من قريش.. وتعلّق المشركين بهذه القضية في هذا الوقت، ودعوة النبي إلى الدخول معهم في مناقشتها والفصل فيها- هو مما يجعل المعركة بين النبي وبين المشركين تنتقل إلى ميدان آخر، يقفون هم فيه موقف المتفرجين.
وهذا من شأنه أن يغمد سيوف الحق التي تضرب في وجوههم، من قبل أن توقع الهزيمة بهم.. ولهذا جاء القرآن الكريم مبطلا مكرهم هذا بقوله سبحانه:
{ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا.. بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.
أي ما ضربوا هذا المثل الذي يوقع الشبه بينهم وبين أتباع المسيح الذين يعبدونه، من جهة، وبين آلهتهم التي يعبدونها، وبين المسيح- من جهة أخرى- ما ضربوا هذا المثل إلا جدلا، أي لأجل الجدل الذي يصرف عن الحق، وبعمّى السبل عنه.
وهذا شأن القوم في أكثر أمورهم.. فهم قوم خصمون.. أي شديد والجدل في الخصومة.. كما يقول اللّه سبحانه وتعالى فيهم: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} [97: مريم] أي شديد والدد والعناد في الخصومة.
وفى قوله تعالى: {قَوْمُكَ} إشارة إلى قوم آخرين، لهم خصومة في ابن مريم، وهم أتباع المسيح الذين يعبدونه.
قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ}.
هذا هو مقطع القول في المسيح، بلا جدل، ولا مماحكة.. ما هو إلا عبد من عباد اللّه، ورسول من رسله، أنعم اللّه عليه بالرسالة، وجعله معلما من معالم الهدى لبنى إسرائيل، بعد أن ماجوا في الفتن، وغرقوا في الضلال.. فإذا ضل فيه الضالون، وفتن به المفتتنون، فليس في هذا حجة يحتج بها المشركون على النبي، ويتخذون منها ذريعة لتبرير منكرهم الذي هم فيه، من عبادة الملائكة الذين نصبوا لهم هذه التماثيل، وأطلقوا عليها ما أطلقوا من أسماء.
قوله تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}.
هو ردّ على المشركين الذين ينظرون إلى الملائكة نظرة ترفعهم إلى مقام الألوهية.. بهذا النسب الذي ينسبونهم به إلى اللّه.. وهذا نظر فاسد.. فإنه مهما يكن مقام المخلوق في المخلوقات، فإنه عبد من عباد اللّه، وخلق من خلقه، يعبد اللّه ويسبح بحمده، شأنه في هذا شأن كل مخلوق للّه.. {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً} [172- 173: النساء].
فهذا هو المسيح- على ما يرى الناس من عجيب مولده- وهؤلاء هم الملائكة- على ما يرى الناس من عظمة خلقهم، وقربهم من ربهم- إنهم جميعا عبيد للّه: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} [6: التحريم].
فكيف يعبد العبد مع السيد، ويؤلّه المخلوق مع الخالق! وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} أي أنه لو شاء اللّه لجعل الناس على صورة الملائكة، خلقا وتكوينا، ولأقامهم على خلافة الأرض ملائكة لا بشرا.. فإن الذي خلق الملائكة جندا في السماء قادر على أن يخلق ملائكة ليكونوا خلفاء في الأرض.. وفى هذا تذكير للناس بهذه الخلافة التي لهم على هذه الأرض.. وأن اللّه سبحانه وتعالى قد جعلها للناس دون الملائكة الذي طمعوا فيها، ورأوا أنهم أحق من البشر بها، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} [30: البقرة] وفى هذا ما يرى منه هؤلاء المشركون الذين يعبدون الملائكة أنهم إنما يعبدون خلقا مثلهم، أرادوا مرّة أن يكون لهم ما للإنسان من هذا السلطان الذي له في هذه الأرض.
فكيف يجوز في عقل عاقل أن يعبد الإنسان من كان يطمع في أن يكون في منزلته؟.. أليس ذلك تدلّيا وسقوطا؟ وبلى إنه التدلّى السفيه، والسقوط المهين! قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ}.
هو تعقيب على قوله تعالى في شأن عيسى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}.
وهذا التعقيب يجب أن يكون من كل عاقل على ما سمع من قول اللّه تبارك وتعالى في شأن عيسى، وأنه عبد من عباد اللّه، وأنه إذا كان المشركون المعاندون قد تعلقوا بحبال الضلال من هذا المثل، واستخرجوا منه هذا المنطق الفاسد الذي تصابحوا به فرحا- فإن العاقل ليجد في هذا المثل دليلا يستدلّ به على البعث، فيزداد إيمانا به، ويقينا بأن الساعة آتية لا ريب فيها.
أي {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي وانه، أي ابن مريم- في الميلاد الذي ولد به- ليفيد علما بالساعة، أي بالبعث، حيث يتجلى في خلقه على تلك الصورة بعض من مظاهر قدرة اللّه، وأن البعث الذي ينكره المشركون، استعظاما له، إذ يقولون: {مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [78: يس]. ويقولون: {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [3: ق]- هذا البعث، هو أمر واقع تحت سلطان قدرة اللّه التي لا يعجزها شىء.. فمن نظر إلى ميلاد المسيح الذي جاء على غير تلك الأسباب التي يعرفها الناس، لم ينكر البعث وإعادة الحياة إلى من في القبور، وإن جاء على غير ما يعرف الناس من أسباب.. وهذا هو العلم الذي يستدل به أولو النظر، على إمكان البعث، والحساب، والجزاء، إذا هم نظروا نظرا مستبصرا في ميلاد المسيح على تلك الصورة الفريدة التي ولد بها.
وقوله تعالى: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِها} هو تعقيب على قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ}.
بمعنى أنه إذا كان ميلاد المسيح يفيد علما بإمكان البعث، ومجىء الساعة- فإنه يجب الا يمترى فيها الممترون، وألا يجادل فيها المجادلون، وألا يكذب بها المكذبون، وبين أيديهم الدلائل والشواهد عليها.
وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُونِ.. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} معطوف على قوله تعالى: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِها} أي فدعوا المراء والجدل في الساعة، والتكذيب بها، واتبعون فيما أدعوكم إليه أيها المشركون من الإيمان باللّه، واليوم الآخر.. فهذا هو الصراط المستقيم، الذي يسلك بمن يأخذ طريقه عليه، إلى غايات الأمن، والسلامة، والنجاة.
قوله تعالى: {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ.. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي اتبعونى ولا تتبعوا ما يدعوكم إليه الشيطان، الذي يصدكم عن اتباع هذا الصراط المستقيم الذي أدعوكم إليه.. فأنا أدعوكم إلى الخير، وأرتاد لكم طريق النجاة، لأنى محبّ لكم، حريص على سلامتكم ونجاتكم.. أما الشيطان، فهو عدو ظاهر العداوة لكم، لا يدعوكم إلا إلى ما فيه بلاؤكم وهلاككم.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ}.
أي أنه لما جاء عيسى إلى بنى إسرائيل بالآيات البينات، بما أجرى اللّه سبحانه وتعالى على يديه من معجزات، وبما أجرى على لسانه من الكلم الطيب الحكيم، الذي يشفى سقم العقول، وآفات القلوب- لما جاء إلى بنى إسرائيل {قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي أن هذا الذي جئتكم به من آيات بينات، هو مما أمرنى اللّه سبحانه وتعالى أن أحمله إليكم من عنده لأطبّ لكم به من عللكم وأدوائكم العقيلة والروحية والجسدية.. {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي ولأكشف لكم عن مواقع الحق فيما اختلفتم فيه من التوراة، وأحكامها.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في آية أخرى على لسان المسيح: {وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [50: آل عمران].
فالمسيح لم يجىء إلى بنى إسرائيل داعيا لهم أن يعبدوه من دون اللّه، كما ذهب إلى ذلك أهل الضلال ممن عبدوه، وجعلوه إلها.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [116- 117: المائدة].
قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي أنه قد وقع الخلاف بين بنى إسرائيل في شأن المسيح، وفى مفهوم دعوته التي جاءهم بها، فكانوا في ذلك أحزابا وشيعا.
ففريق منهم بهته وكذبه، ورماه وأمه بالفحش والزور من القول.
وقالوا إنه ابن زنى، وإن أمه جاءت به من سفاح! وفريق غالى فيه، ورفعه إلى مقام الألوهية.. فقالوا إنه اللّه تجسد في مريم، وجاء على صورة المسيح! وهكذا هلك الفريقان فيه.
وبين هذين الفريقين فرق أخرى كثيرة، بعضها مبالغ، وبعضها مقتصد.
وفى قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وعيد لهذه الفرق المنحرفة جميعها.. فكلّ جائر، حائد عن طريق الحقّ في المسيح، وفى المفهوم الذي فهموه عليه.. فهو ليس إلها ولا ابن إله، كما زعم أنصاره وأتباعه.. وهو ليس ابن زنى، ولا كذابا، ولا دجالا، كما رماه بذلك المفترون الضالون من اليهود.. وإنما هو كما قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ}.


{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
هو عودة بالخطاب إلى المشركين، بعد أن ضرب لهم المثل بالمسيح بن مريم، وبما كان منهم من شغب في هذا المثل، وما كان من بنى إسرائيل من خلاف في شأنه.. وفى هذا الخطاب الاستفهامى تهديد للمشركين بما سيحل بهم، إذا هم أمسكوا بما هم عليه من شرك وضلال.. فماذا ينتظرون؟ إنه ليس وراء هذا الانتظار إلا أن يموتوا على شركهم، وإلا أن يجدوا أنفسهم فجأة، وعلى غير توقع منهم- أنهم بين يدى عذاب اللّه، الذي أعدّ للضالين المكذبين.
قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} الأخلاء: جمع خليل.. وهو الصاحب الذي اتصل الودّ بينه وبين صاحبه.
والمعنى: أنه في يوم القيامة يشغل كل إنسان بأمر نفسه، لما يرى من أهوال هذا اليوم.. {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [34- 37: عبس].. هذا شأن الناس جميعا.
أما أهل الضلال، وإخوان السوء، فإن لهم إلى هذا الشأن شأنا آخر.. وهو أنهم يترامون بالتهم، ويتقاذفون باللعنات.. كل منهم يلقى باللأئمة على صاحبه ويقول له أنت الذي دعوتنى إلى كذا وكذا من المعاصي، وأنت الذي زينت لى كذا وكذا من الشرور، كما يقول اللّه سبحانه على لسان المستضعفين، ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم: {رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ}.
(38: الأعراف).
وكما يقول سبحانه عن أهل الضلال جميعا: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} [25: العنكبوت].
وقوله تعالى: {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} استثناء من هذا الحكم العام: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}.
فليس كل الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو.. وإنما هذا الحكم واقع على إخوان السوء، وأهل الضلال.. أما أهل الإيمان، والتقوى، المتحابون في للّه، المجتمعون على ذكره وطاعته- فهؤلاء يلقى بعضهم بعضا بالحمد والثناء، حيث كان بعضهم لبعض ناصحا وهاديا.
قوله تعالى: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}.
هو دعاء من رب كريم، لعباده المتقين، الذين استخلصهم سبحانه من بين هذه الجموع المتخاصمة الملاعنة من أهل الفسق والضلال.
فأهل المحشر جميعا بعضهم عدو لبعض إلا المتقين، الذين ينادون من قبل الرحمن بقوله تعالى: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}.
وفى نداء المتقين من بين هذا المعترك الصاحب من حولهم، وفى إضافتهم إلى اللّه سبحانه وتعالى: {يا عِبادِ} لطف من لطف اللّه بهم، حيث تسكن بهذا النداء الكريم نفوسهم المضطربة، وتطمئن قلوبهم الواجفة، لما يرون من تناهش أهل الضلال حولهم، وتراميهم بالعداوة والشنآن.. فإذا سمعوا هذا النداء الكريم بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أمنوا من خوف، واطمأنوا من فزع.. إنهم ناجون وحدهم من بين الركب الذي تتخبط به السفينة في متلاطم الأمواج، وتوشك أن تهوى إلى القاع!.
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ}.
هو وصف لهؤلاء العباد، الذين ناداهم الحق جل وعلا بقوله: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}.
فهم إنما استحقوا هذا التكريم من اللّه سبحانه وتعالى، بندائهم، وبإضافاتهم إلى ذاته جل وعلا.
لأنهم آمنوا بآيات اللّه.. وكانوا مسلمين.
وفى وصفهم بالإيمان، ثم وصفهم بأنهم كانوا مسلمين قبل أن يكونوا مؤمنين- في هذا إشارة إلى أنهم قبل أن يؤمنوا على يد الرسل، ويصدّفوا بآيات اللّه التي في أيديهم- كانوا مسلمين، أي على فطرتهم السليمة، التي لم تفسدها الأهواء الموروثة، لقل كانوا على السلامة والبراءة، حتى إذا التقوا برسل اللّه، ونظروا فيما معهم من آيات، استجابوا لدعوة الحق، وآمنوا بآيات اللّه.. أشبه بالأرض الطيبة، التي احتفظت بكل ما فيها خير، حين لم تجد الماء الذي يحيى مواتها، حتى إذا غائها الغيث، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم.. وليس كذلك الأرض الخبيثة، فإنها حين لا تجد الماء، حيث تنضح بكل ما فيها من خبث، فتصبح منبتا للحسك والشوك، ومأوى للآفات والهوام.
وقوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ}.
بعد أن يجتمع المؤمنون على هذا النداء الكريم من ربهم، يدعوهم اللّه سبحانه وتعالى إلى ضيافته في الجنة.. {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ} أي حيث تلقون المسرة والحبور مع أزواجكم اللاتي آمنّ معكم.
وبهذا يكمل أنسهم، ويتم نعيمهم.
قوله تعالى: {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ}.
فى الانتقال من الخطاب في قوله (أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) إلى الغيبة، في قوله تعالى: {يُطافُ عَلَيْهِمْ} بدلا من {يطاف عليكم} في هذا إلفات للأنظار إلى هذا النعيم الذي يساق إلى عباد اللّه المتقين، الذين استضافهم سبحانه وتعالى في رحاب كرمه، وأنزلهم منازل رضوانه.. وفى هذا ما يبعث في قلوب المكذبين والضالين، من حسرات، إلى ما هم فيه من آلام، وأحزان، كما أنه يضاعف من نعيم أهل هذا النعيم، حيث ينظرون إلى أنفسهم وإلى ما هم فيه من عافية، وحيث يلقى غيرهم صنوف البلاء والهوان.
وفى قوله تعالى: {بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ} إشارة إلى الطعام وهو في آنية الطعام، وهى الصحاف، جمع صحفة.. وإلى الشراب وهو في آنية الشراب، وهى الأكواب: جمع كوب.. وهى جميعا من ذهب.
وقوله تعالى: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} إشارة أخرى إلى أن وراء هذه الأطعمة والأشربة التي يطاف على أهل الجنة بها- وراء هذه الأطعمة كل ما تشتهى الأنفس من طيبات.. فلا يطلب أحد شيئا إلا وجده حاضرا بين يديه، كما يقول اللّه تعالى: {وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} [31: فصلت].
وقوله تعالى: {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} إشارة ثالثة إلى ما للأعين من متع خاصة، تجدها فيما ترى من آيات اللّه، وبديع صنعه في هذه المنازل الكريمة، التي استضافهم اللّه سبحانه وتعالى فيها.
هذا، وقد تأول بعض المفسرين قوله تعالى: {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} بأنه النظر إلى اللّه سبحانه وتعالى، حيث لا يكمل نعيم أهل الجنة إلا بالنظر إلى اللّه سبحانه، فيتجلى اللّه سبحانه وتعالى على أهل الجنة، فيكون لهم من ذلك ما لا يحيط به الوصف من رضا ورضوان.
هذا وقد أشرنا في أكثر من موضع إلى أن هذه الأوصاف الحسية التي يذكرها القرآن لنعيم الجنة، من ألوان الطعام والشراب، وأنواع اللباس والحلىّ- كلها مما يساق إلى أهل الجنة، الذين كانوا يشتهون هذه الأمور في الدنيا، ثم تقصر أيديهم عنها، أو كانوا يحرمون أنفسهم منها، ابتغاء مرضاة اللّه!.
فكان من تمام إكرامهم، أن يجدوا بين أيديهم كل ما كان من نعيم الدنيا، الذي فاتهم حظهم منه.. عجزا، أو استعلاء.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ}.
الإشارة إلى الجنة هنا، هى دعوة لأهلها إلى أن يزفّوا إليها، وأن ينالوا منها ما يشاءون.. فقد أصبحت ملكا لهم، يتصرفون فيها تصرف المالك فيما ملك.
وقد عبّر القرآن عن الملك بالميراث، لأمرين:
أولا: أن الوارث لا يبخل على نفسه بالتمتع بكل ما ورث، حيث لا يشتد حرصه عليه، لأن ما ورثه قد جاء إليه من غير عناء.. وفى هذا دعوة إلى أهل الجنة أن ينالوا من هذا النعيم الموروث ما يشاءون، غير مضيقين على أنفسهم في شىء.
وثانيا: أن هذه الجنة التي نزل المؤمنون رحابها، وورثوا نعيمها- هى فضل من فضل اللّه عليهم، وإحسان من إحسانه إليهم، وأن أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا ليست هى الثمن الذي يكافىء هذا النعيم العظيم.
وأن هذه الأعمال لم تكن إلا سببا ووسيلة يتوسلون بها إلى مرضاة اللّه.
كما يتوسل الوارث إلى مورثه بسبب من قرابة ونسب، فتكون هذه القرابة سببا لميراث ما يرث، وإن لم يكن له فيما ورثه من عمل.
أما قوله تعالى: {بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهو لتحقيق أمرين كذلك.
أولهما: الاحتفاء بالأعمال الصالحة، والإشارة بقدرها، وإلى أنها تثمر ثمرا طيبا.. وأن من يغرس في مغارسها لا بد أن يجنى منها ثمرا طيبا مباركا.
وثانيهما: تكريم العاملين، وإطعامهم من ثمرة عملهم.. ففى هذا لذة مضاعفة لهذا الثمر الذي غرسوا مغارسه، وتعهدوها بالعمل.. على خلاف ما يناله الإنسان عفوا من غير عمل له.. فإنه وإن كان طيبا كريما، يجد فيه المرء هناءته وسعادته- فإنه يقوم معه شعور في النفس بأنه ليس ملكا خالصا لصاحبه، وأنه أشبه بالضيف الوارد عليه.. وفى هذا ما يزعج الإنسان عما يجد فيه من هناءة وسعادة.
وفى التعبير القرآنى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ما يجعل هذه الجنة ونعيمها، ملكا، مصفّى من كل شائبة، معزولا عن كل شعور يعزل الإنسان عن هذا النعيم، أو يقطعه عنه.. فهى ميراث ينفق منه الإنسان كيف يشاء، وينال منه ما يريد.. وهى ثمرة عمل وجهد.. ومن حق العامل أن ينعم بما عمل!.


{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ}.
هو بيان لما يلقى أهل الضلال والكفر من عذاب وبلاء في الآخرة، بعد هذا البيان الذي كشف عما للمؤمنين المتقين عند اللّه من جنات ونعيم.. فالناس في الآخرة فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير.. فريق يتلقى الكرامة والتكريم، وفريق يلقى الهوان والعذاب.
وفى التعبير عن أهل الضلال بالمجرمين، إشارة إلى أنهم أصحاب جنايات جنوها على أنفسهم وعلى غيرهم من عباد اللّه.. وأن هذا العذاب الذي يعذّبون به في الآخرة بالخلود في نار جهنم- إنما هو جزاء لهذه الجرائم التي اقترفوها في دنياهم.
قوله تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}.
هو صفة للعذاب الذي يخلد فيه المجرمون.. فهو عذاب لا ينقطع عنهم أبدا، ولا يفتر أو يضعف أبدا، بل هو متصل دائما، وعلى حال واحدة من الشدة والبلاء، وإن اختلف صورا وألوانا.
وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} حال كاشفة عن هؤلاء المجرمين وهم يصلون هذا العذاب الأليم.. والإبلاس: هو الوجوم، والجمود، من شدة الحزن واليأس.. فهم أجسام قد تبلدت فيها العقول، وجمدت منها المشاعر، وذهلت النفوس.
قوله تعالى: {وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}.
أي أن هذا العذاب الذي هم فيه، لم يكن لظلم وقع عليهم، حيث يراهم الرائي فيستفظع هذا العذاب، الذي لا ينقطع أبدا، ويخيل إليه أنه ليس هناك من ذنب يستحق هذا العذاب الذي لا تحتمله السموات والأرض.. وكلا فإنهم لم يظلموا، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم، فأوردوها هذا المورد، وسعوا بها إلى هذا البلاء، فكفروا باللّه، وحاربوا الخالق، وخرجوا بهذا على الولاء للّه، والانقياد لرب العالمين، الذي انقاد له الوجود كله.
قوله تعالى: {وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ}.
مالك، هو الملك الموكّل بالنار من عند اللّه سبحانه وتعالى، وهو الذي يقوم على أهل النار، كما يقوم السبحان على المسجونين.
وفى قولهم: {يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} ما يكشف البلاء النازل بهم، كما يكشف اليأس الذي وقع في نفوسهم من أن ينالوا من اللّه خيرا.. فهم لا يرجون اللّه في هذا اليوم، ولا يطمعون في رحمته، حتى إنهم لينادون مالكا:
{يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} ولم يقولوا {ليقض علينا ربنا} إنهم على يأس من أن ينسبوا إلى اللّه، وأن يقبل اللّه منهم قولا.. وذلك من ضلالهم الذي صحبهم في آخرتهم. فلم يقدروا اللّه قدره.. ولم يروا سعة رحمته.
وقوله تعالى: {قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} هو ردّ مالك على ما طلبوه منه أن يسأل ربه القضاء عليهم، وإهلاكهم، حتى ينقطع عنهم هذا العذاب.
وقول مالك: {إِنَّكُمْ ماكِثُونَ}.
أبلغ من قوله إنكم لن تموتوا أو لن يقضى عليكم، لأن قوله: {إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} يدل على أنهم لن يموتوا، ولن يقضى عليهم، كما يدل في نفس الوقت على أنهم لن يتحولوا عن حالتهم تلك التي هم فيها.. إنهم ماكثون فيما هم فيه من عذاب أليم، وعلى تلك الحال التي هم عليها.
أما لو قيل لهم لن يقضى عليكم، أو لن تموتوا، فقد يظلون أحياء، ولكن في غير صحبة هذا العذاب الذي معهم! وإن كان ذلك بعيدا عن محامل اللفظ، إلّا أن المكروب يتعلق بأوهى الأسباب، وفى هذا القول متعلق لهم، وإن كان متعلقا كاذبا.. فجاء قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} ليقطع حتّى هذا الوهم الذي يتعلقون به!.
قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ}.
يكاد يجمع المفسرون على أن هذا الخطاب موجه إلى أهل النار، وأنه من مقول القول الذي ردّ به مالك عليهم، وأن جمع الضمير في قوله {جِئْناكُمْ} لأن مالكا إنما يتحدث إليهم بلسان الملائكة الذين هو منهم، والذين جاوءا إلى هؤلاء المشركين بالحق من ربهم، فيما حملوا إلى رسل اللّه من آيات اللّه! وهذا مردود من وجهين:
فأولا: في قوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ} ما يشير إلى أن بعضا من المخاطبين بهذا الحديث غير كارهين للحق، بل هم مستعدون لقبوله، والانتفاع به.
وهذا لا يتفق مع أهل النار، الذين قيل إن هذا الخطاب موجّه إليهم، إذ ليس فيهم أحد لم يكن كارها للحق، مجانبا له، بل ومحاربا لكل من يتجه إليه.. ولو كان على غير تلك الصفة لما ورد هذا المورد، ولما لقى هذا المصير المشئوم!! وثانيا: أن قوله تعالى في الآية التالية: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}.
هو- وبإجماع المفسرين- خطاب إلى المشركين! وهذا الخطاب- كما ترى متصل بالكلام الذي سبقه، إذ هو إضراب عنه، وإنشاء لخطاب آخر معهم.. كما سنرى.
وعلى هذا، فإن قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ} هو خطاب.
من اللّه سبحانه وتعالى للمشركين، على لسان النبي صلوات اللّه وسلامه عليه.
وفى هذا الخطاب ردّ على هؤلاء المشركين، الذين يدعون إلى هذه النار التي يعذّب فيها المجرمون، الذين نادوا مالكا قائلين: {لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} هؤلاء المشركون يدعون في هذه اللحظة إلى تلك النار، وهم إذ يطلبون وجها للفرار منها، يلقاهم هذا القول الذي يمسك بهم، ويدفعهم دفعا إلى جهنم: {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ}.
والمخاطبون بهذا إنما هم أكثر المشركين الذين كانوا إلى هذا الوقت يقفون من اللّه هذا الموقف العنادي، فأبوا أن يستمعوا لآيات اللّه، وأن يستجيبوا لها.
أما الذين استجابوا للرسول، وآمنوا باللّه، فقد كانوا قلة قليلة منهم.
ولهذا صح أن يخاطبوا بقوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ}.
قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}.
هو إضراب عن هذا الخطاب الذي وجه إليهم، والذي كان من شأنه أن يحدث لهم ذكرا، وأن ينقادوا للحق، ويذعنوا له.. وأما ولم يكن لهم من هذا الحديث عبرة وعظة، فقد كان من التدبير الحكيم أن يطوى عنهم هذا الحديث، وأن يواجهوا بهذا الواقع الذي هم فيه، وهو أنهم قد أبرموا أمرهم وأحكموه على هذا الضلال، واللّه سبحانه قد أحكم أمره، على أن يأخذ المجرمين يجرمهم.. وفى هذا وعيد لهم بما سيلقون من عذاب أليم، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.
قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}.
هو إضراب أيضا عن الخطاب الذي وجه إليهم في قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}.
حيث أن هذا الوعيد الذي يحمله الخطاب إليهم لم يلق منهم إلا استهزاء، واستخفافا، لأنهم على ظنّ بأن لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء.. وأنه إذا كان بعث وحساب وجزاء- فأين هى أعمالهم التي يحاسبون عليها؟ ومن رآها منهم وأحصاها عليهم؟ وإذا كان هناك من يرى أعمالهم الظاهرة التي يعملونها على مشهد من الناس، فأين من يعلم ما يعملونه في الخفاء، وما يضمرونه في الصدور؟.
فجاء قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟} ليكشف عن هذا الوسواس، الذي توسوس به لهم ظنونهم الكاذبة، عن علم اللّه سبحانه وتعالى، وليقرر لهم الحقيقة التي غابت عنهم، وهى أن كل شيء عملوه في السرّ أو في الجهر، يعلمه اللّه الذي لا تخفى عليه خافية.. بل وليس هذا فحسب، بل إن أعمالهم كلها- سرها وجهرها- مسجلة في كتب يكتبها رسل من عند اللّه موكّلون بهم.. {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [18: ق].
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ}.
هو بيان للموقف الذي يتخذه النبي من دعوى المشركين بأن للّه ولدا، وهم الملائكة الذين نسبوهم إلى اللّه، ثم عبدوهم من دونه.
فلو أنه سلّم بهذا الأمر جدلا، وكان للرحمن ولد كما يزعمون- فهذا لا يجعل للولد مكانا متقدما على الوالد، حتى يؤثر بالعبادة من دونه.. فالوالد مقدّم على الولد رتبة وزمانا.. فهو بهذا معبود قبل أن يوجد الولد.. فإذا وجد الولد بعد هذا، فليس له أن يزيل الوالد عن مكانه! وعلى هذا، فإنه لو سلّم للمشركين بما يقولونه من أن للّه ولدا، فإن هذا لا يعطيهم حجّة على عبادة الولد دون الوالد.. ولهذا كان أن واجههم النبي بما ينبغى أن يكون عليه الأمر- على فرض التسليم بدعواهم الباطلة- وهو أن النبىّ أول العابدين للّه، دون التفات إلى هذا الولد على فرض التسليم به..!
وهذا الأسلوب في محاجّة الخصم، هو أبلغ الأساليب في إفجامه، وقطع حجته، وذلك بإقامة الحجة عليه من واقع إقراره واعترافه، عملا بالمثل القائل: من فمك أدينك.
قوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
هو تنزيه للّه سبحانه وتعالى عن هذا القول الذي يقوله المشركون باللّه، من نسبة الولد إليه، والذي سلم به جدلا، لإظهار فساد منطقهم حتى مع هذا المدعى الباطل الذي يدّعونه على اللّه.. أما اللّه سبحانه وتعالى فهو منزه عن أن يكون له ولد.. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}.
هو استصغار لأحلام هؤلاء المشركين، وأنهم أشبه بالأطفال، يخوضون ويلعبون، فلا معتبر لما يقولون.. لأنهم يرمون بالكلام على عواهنه، دون أن يكون لعقولهم نظر فيه، أو تقدير له، ولهذا فإن الأولى بالنبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن ينصرف عنهم، وأن يدعهم لما هم فيه من لهو ولعب، حتى تقع بهم الواقعة، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون.

1 | 2 | 3 | 4